حرب غزة- خسائر جسيمة، مكاسب سياسية، ومستقبل المقاومة الفلسطينية

في أعقاب أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، حينما نفذت حماس هجومًا واسع النطاق استهدف الأمن والجيش والمستوطنات الإسرائيلية، شنت إسرائيل حربًا ضروسًا على قطاع غزة، مخلفةً دمارًا هائلًا طال كافة القطاعات الحيوية بلا استثناء. وبعد هذه الخسائر الفادحة التي نجمت عن تلك الحرب، يبرز سؤال جوهري: هل كانت عملية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول تستحق كل هذا الدمار الذي لحق بالشعب الفلسطيني في غزة؟ للإجابة على هذا التساؤل، يتعين علينا تحليل الحرب وتداعياتها من زوايا متعددة.
خسائر أطراف الحرب
أدت هذه الحرب الغاشمة إلى استشهاد ما يزيد على 25 ألف شخص، غالبيتهم العظمى من الأطفال والنساء، بالإضافة إلى إصابة أكثر من 63 ألف شخص بجروح خطيرة. كما استشهد أكثر من 347 فلسطينيًا وأصيب ما يزيد على 4000 آخرين في الضفة الغربية، التي تشير التقارير الإسرائيلية إلى أنها تتجه نحو حالة من الانفجار الوشيك. في المقابل، تزعم قوات الاحتلال الإسرائيلي أنها قتلت أكثر من 8 آلاف مقاتل فلسطيني ينتمون إلى فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة.
أحدثت إسرائيل دمارًا واسع النطاق في البنية التحتية لمدينة غزة، حيث دمرت أكثر من 50٪ من الوحدات السكنية، وأخرجت جميع مرافق البنية التحتية من الخدمة بشكل كامل، كما تسببت في تهجير ما يقرب من 85٪ من سكان غزة الذين اضطروا إلى النزوح من ديارهم بسبب القصف العنيف، إذ ألقت إسرائيل ما يناهز 10 آلاف قنبلة وصاروخ على غزة حتى الآن.
وتشير التقارير إلى أن كمية المتفجرات التي أُلقيت على غزة حتى الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي قد تجاوزت في قوتها التدميرية قوة القنابل الذرية التي أُلقيت على هيروشيما وناجازاكي خلال الحرب العالمية الثانية.
وأفاد المرصد الأورو-متوسطي لحقوق الإنسان بانعدام مصادر المياه الصالحة للشرب بشكل كامل، نتيجة قطع إمدادات المياه عن غزة ونقص الوقود اللازم لتشغيل محطات تحويل وتوزيع المياه، الأمر الذي أدى إلى تفشي الأمراض المنقولة والمعدية.
وأوضحت لجنة من الخبراء التابعين للأمم المتحدة أن أكثر من 90٪ من سكان القطاع يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، وأن ربع السكان يواجهون مستويات كارثية من الجوع.
بالإضافة إلى ذلك، تعطل التعليم المدرسي بشكل كبير، حيث لحق الدمار بـ 69٪ من المرافق التعليمية، وتوقفت العديد من المرافق الصحية عن تقديم الخدمات الطبية، واستشهد 373 شخصًا من كوادرها، مما فاقم الأزمة التي كان يعاني منها القطاع قبل الحرب. وتجدر الإشارة إلى أن جميع الأرقام المذكورة أعلاه مرشحة للارتفاع بشكل كبير في ظل استمرار الحرب والعدوان الإسرائيلي الوحشي على غزة.
في المقابل، لم تكن الخسائر الإسرائيلية الناجمة عن الحرب على غزة بالهيّنة. فوفقًا للاعترافات الإسرائيلية، بلغ عدد القتلى من العسكريين منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (بما في ذلك الجنود الذين قُتلوا في ذلك اليوم، والجنود الذين قُتلوا في الحرب البرية، ومن قُتلوا على الحدود مع لبنان، ومن قُتلوا في حوادث أو بنيران صديقة) 561 جنديًا، وأصيب 2496 جنديًا إسرائيليًا بجروح، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد في ظل الخسائر الفادحة التي يتكبدها الجيش الإسرائيلي يوميًا في غزة، وآخرها حادثة المغازي.
كما قُتل 790 مدنيًا إسرائيليًا في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وبلغ عدد المصابين والجرحى المدنيين أكثر من 10 آلاف شخص، ونزح ما يقرب من ربع مليون إسرائيلي من المستوطنات الواقعة على الحدود الشمالية والجنوبية.
ولا تزال فصائل المقاومة في غزة تحتفظ بـ 132 أسيرًا إسرائيليًا منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، بعد أن تبادلت عددًا منهم مع أسيرات فلسطينيات خلال الهدنة المؤقتة التي جرت في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
وأطلقت فصائل المقاومة من غزة نحو 14 ألف صاروخ، استهدفت المناطق الإسرائيلية، بما فيها تل أبيب والقدس الشريف، ولا تزال قادرة على إطلاق الصواريخ من القطاع، وكل هذه الأرقام قابلة للزيادة بين الحين والآخر.
الربح والخسارة في ميزان حروب حركات المقاومة
صحيح أن الفارق شاسع بين حجم الخسائر التي تتكبدها المقاومة الفلسطينية وحاضنتها الشعبية والخسائر النسبية التي تتكبدها دولة الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن ميزان الربح والخسارة في الحروب التي تخوضها حركات المقاومة يختلف جوهريًا عن الحروب التي تخوضها الدول والجيوش النظامية ضد بعضها البعض. فالتاريخ يشهد بأن خسائر المقاومة المادية تكون دائمًا أضعاف خسائر الدولة المحتلة، ولكن مهما بلغت خسائر قوى المقاومة وحاضنتها الشعبية من فداحة، فإنها تظل أقل ضررًا بالمقارنة مع الخسائر الناتجة عن استمرار الاحتلال لتلك الشعوب.
إضافة إلى ذلك، لا تستطيع الدول المحتلة تحمل تكلفة الحرب، حتى مع محدودية خسائرها، وهذا ما يؤكده تاريخ حركات التحرر في جميع أنحاء العالم.
ويمكن تلخيص الإنجازات التي حققتها المقاومة الفلسطينية في هذه الحرب، والتي تصب في صالح القضية الفلسطينية، في عدة نقاط:
على الصعيد العسكري، نجحت المقاومة في دحض فكرة الجيش الذي لا يقهر، حيث كشفت أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عن حجم الوهم والهالة المصطنعة التي تحيط بدولة الاحتلال، وأظهرت أن مجموعة من المقاتلين الذين يتمتعون بإرادة صلبة وعنصر المفاجأة قادرون على تحقيق إنجازات لم تشهدها دولة الاحتلال منذ قيامها، وأنهم قادرون على كسر الحاجز النفسي العربي وإبطال مقولة الجيش الذي لا يُقهر.
وكما أن حرب الكرامة الأردنية عام 1968، وحرب السادس من أكتوبر/ تشرين الأول المصرية عام 1973، والمقاومة اللبنانية التي أجبرت إسرائيل على الانسحاب من جنوب لبنان عام 2000، قد أنهت حلم إسرائيل في التوسع الجغرافي خارج الأراضي الفلسطينية، فإن هزيمة إسرائيل في غزة – إذا تحققت – ستعني نهاية حلم إسرائيل في التوسع الجغرافي داخل الأراضي الفلسطينية على حساب الشعب الفلسطيني وأراضيه، وبداية تآكل المشروع الإسرائيلي، وبداية العد التنازلي لانتهاء هذا المشروع الطارئ على الأرض.
على المستوى السياسي، استطاعت المقاومة أن تعيد القضية الفلسطينية إلى الواجهة، وتعيد وضعها على طاولة المحافل الدولية بعد أن كاد النسيان يطويها. فقد أحيت أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول فكرة حل الدولتين لدى الساسة الأميركيين والأوروبيين، وهو الحل الذي يرفضه اليمين المتطرف الذي يهيمن على الحكومة الإسرائيلية، والذي يطمع في كامل الأراضي الفلسطينية التي احتلتها عام 1967، ويسعى إلى التخلص من جميع السكان الفلسطينيين خارج فلسطين.
كما تمكنت العملية من وقف عجلة التطبيع العربي الإسرائيلي مؤقتًا، والذي سيتحدد مصيره أيضًا بناءً على نتائج الحرب على غزة.
ونجحت عملية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول في إرباك اليمين الإسرائيلي الحاكم، الذي أدار المعركة بطريقة أدت إلى انقسامات داخلية، وحتى داخل حكومة الحرب المصغرة، وتسببت في خسائر فادحة لإسرائيل في علاقاتها مع أقرب حلفائها.
وأظهرت استطلاعات الرأي الحديثة أن الحرب قد أضعفت اليمين الإسرائيلي، وأن الأحزاب اليمينية التي تشكل الحكومة الحالية ستتكبد خسائر كبيرة لصالح المعارضة في حال إجراء انتخابات مبكرة.
علاوة على ذلك، تمكنت الرواية الفلسطينية، من خلال ردة الفعل الإسرائيلية، من فضح مدى الوحشية التي تتسم بها دولة الاحتلال، واستطاعت العملية أن تستفز اليمين الإسرائيلي المتطرف، وأن تكشف للإعلام أسوأ ما في العقلية الإسرائيلية، ليتضح للعالم والرأي العام في الدول الداعمة لإسرائيل حجم البربرية التي تمارسها هذه الدولة.
وقد انعكس ذلك على استطلاعات الرأي الأميركية، حيث رأى الشباب الأميركي من سن 18 إلى 24 أن حل القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني – من وجهة نظرهم – يكمن في إنهاء دولة إسرائيل وتسليمها للفلسطينيين، إذ ساعد الإعلام البديل ووسائل التواصل الاجتماعي في تصوير مشاهد الوحشية الإسرائيلية على حقيقتها دون تزييف أو تجميل.
كما أدت مشاهد الحرب إلى جر إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية، وقد تكون تلك اللحظةُ الحاسمة التي تُبدل صورة إسرائيل من دور الضحية الذي تقمصته على مدار العقود الماضية إلى دور الجلاد الذي يرتكب الجرائم ضد الإنسانية.
متى تكون المقاومة منتصرة أو مهزومة؟
على الرغم من الأهمية الكبيرة للمكاسب السياسية والعسكرية التي حققتها المقاومة، فإنها تظل مكاسب هامشية وثانوية في هذه الحرب. وسيبقى معيار النصر والهزيمة المباشر والمؤثر والرئيسي محكومًا بالنتائج النهائية للحرب على الأرض، والتي ستنعكس على القضية الفلسطينية وتكون بمثابة منعطف حاسم في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بعيدًا عن معيار الخسائر المادية في عدد الشهداء والمباني والبنية التحتية؛ فكل ذلك يمكن تعويضه، فالأمم لا تفنى، بل تتعافى سريعًا.
ويمكن القول بأن المقاومة تنتصر أو تُهزم إذا تحقق لأي من طرفي الصراع نصر أو هزيمة في العناصر التالية:
1- إذا انسحبت إسرائيل من المناطق التي توغلت فيها في غزة في نهاية الحرب؛ فإن هذا الانسحاب يعني أن إسرائيل لم تعد قادرة على فرض ما تريد على الأرض، وأن المقاومة، على الرغم من حجم خسائرها الفادحة، استطاعت أن تفرض واقعًا جديدًا في الصراع الإسرائيلي، وتضع حدًا للزمن الذي كانت إسرائيل تحقق فيه كل ما تصبو إليه.
بينما ستمنى المقاومة الفلسطينية بالهزيمة والخسران إذا استطاعت إسرائيل احتلال القطاع مجددًا والسيطرة عليه وإخضاعه للسلطات الإسرائيلية بهدوء، وإعادة غزة إلى وضع ما قبل عام 2005، لتكون بذلك أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول خطوة إلى الوراء في مسيرة النضال الفلسطيني.
2- يتمثل انتصار المقاومة في بقاء جسمها وهياكلها التنظيمية فاعلة وقادرة على إعادة بناء وتجديد نفسها، وبقاء جزء من قيادتها في المشهد العام والإعلامي، والأهم من كل ذلك احتفاظها بسلاحها وقدرتها على إعادة بناء منظومتها العسكرية.
بينما تكمن هزيمة المقاومة في تفكيكها ونزع سلاحها، وتفكيك المنظومة العسكرية والهياكل التنظيمية لفصائل المقاومة الفلسطينية، والقبض على قادتها ومحاكمتهم أو قبول تهجيرهم إلى خارج غزة.
3- يتمثل نجاح المقاومة في إبرام صفقة تبادل الأسرى التي ستشكل انتصارًا سياسيًا كبيرًا، وتمكنها من تحرير العديد من القيادات المؤثرة والفاعلة في النضال الوطني الفلسطيني، تلك القيادات التي سيمثل تحريرها دفعة قوية وخبرات نضالية قيمة لجميع الفصائل الفلسطينية، مما سينعكس إيجابًا على جميع حركات النضال والتحرر الفلسطيني.
ولكن، إذا تمكنت إسرائيل من تحرير أسراها بالقوة دون الاضطرار إلى إبرام صفقة تبادل أسرى مع المقاومة، فسيكون ذلك نصرًا سياسيًا كبيرًا لإسرائيل، حتى وإن قُتل بعضهم.
لا شك أن هذه الحرب هي حرب فاصلة، فإما أن تنتصر المقاومة ويتراجع المشروع الإسرائيلي، وإما أن تُسحق المقاومة – لا قدر الله – ويتقدم المشروع الإسرائيلي.
لا توجد حلول وسط أو مقاربات أو أنصاف حلول أو ترحيل للأزمة إلى المستقبل في هذه الحرب، فإما النصر الكامل بهزيمة الاحتلال، وإما الهزيمة الكاملة، والواقع العسكري على الأرض هو الذي سيحدد جميع مفردات النصر والهزيمة بعد ذلك.
